بحثًا عن الحق والباطل: هل يمكن لأحد أن يجهل الفارق؟
في غمرة ظلام ليل مشؤوم، أسدل القدر ستائره على روح والدي العزيز، مسموماً بخبثٍ لا يمتّ إلى الإنسانية بصلة. لم يخفَ علينا أن اليدالتي مدت السم، ليست إلا يد زوج أمنا، الرجل الذي تزيّن بالديمقراطية والأرستقراطية، والذي نهل من علم الجامعات الرفيع ونسج علاقاته بخيوط من ذهب مع نخب المجتمع المتواطىء خوفاً أو رغبة مع كل جريمه يقترفها؟
تسارعت عقارب الزمن، ومع مرور السنين، ووفاة والدتنا التي لفها الغموض، أدركنا حجم الجريمة التي كانت تتفتح كزهرة شجرة زقوم في قلب منزلنا. اشقائي وشقيقاتي، الذين تجاوزوا مرحلة الطفولة، كشفوا لي عن الشكوك التي تملأ قلوبهم، والتي تصب في نهر اليقين بأن زوج أمنا لم يكتف بجريمته الأولى، بل ربما يكون قد خطط لنهاية والدتنا أيضًا.
خوفًا من أن نكون شهود عيان على جرائمه النكراء، أو ربما كان يخشى من انتقامنا منه، قام زوج امنا بحبسنا في منزلنا، حيث تحولت جدران غرفنا إلى سجون نفسية تقبع خلفها أرواحنا لأكثر من عشرين عامًا.
كان عدد الحراس أكثر من عددنا ويتناوبون عند الباب ويرصدون كل حركة من خلال اجهزة التنصت والكاميرات. كانوا يمنعوننا من تذوق الحرية، ومن الخروج لأي سبب كان. حتى العلاج، كان يُناول إلينا كما لو كان صدقة، ونادرًا ما كان يأتي طبيب ليفحص من يمرض منا.
ومع ذلك، وتحت ظل هذا الاضطهاد، تم عقد قراننا من أسر كريمة تحت ضغط من الجيران، ولكن فُرض على من رغب بالزواج منا أن يقبل بالعيش في المنزل ولا ولن يُسمح له بالخروج منه، و كبر أطفالنا تحت سقف هذا القهر.
ولكن حتى الطيور المحبوسة تجد طريقها للغناء عن الحرية. وهكذا، في يوم ٧ اكتوبر من عام ٢٠٢٣، انتفض أولادنا، مُتَحْدِين القدر المظلم الذي رُسم لهم. كانوا قد نفذ صبرهم، فلم يعد بالإمكان قبول سلسلة الأيام التي تتحول فيها الكرامة إلى قبور من الذل والهوان، قرروا الخروج إلى النور، حتى لو انهمرت الأسقف فوق رؤوسهم كشلال من الظلم.
وبمجرد محاولتهم خرق الحصار، انهال الحراس عليهم بوحشية، ضاربين ومعتدين، ليس فقط على أولادنا ومنزلنا وطبيب كان يزورنا ومخبز بجوار بيتنا بل هدموا القرية عن بكرة أبيها. البيت الذي كان يأوينا تحول إلى حطام، وأخيراً بدأ الجيران وسكان القرى المجاورة يلمحون إلى الوحش الذي يختبئ في ثياب الأناقة، وتكتنفه سراديب القسوة والجريمة التي لا تعترف بالرحمة.
ما كان يدور خلف جدران البيت العتيق بات الآن مكشوف لأعين الجميع. عَلِمَ الجميع أن تحت تلك البدلة، يختبئ وحش كاسر، قاتل خبيث لا يعرف طريقاً للرأفة أو الندم. قاتل ممزوجة نفسه الخبيثة قبل دخولها إلى جسدة النتن بريح من نَفَسٍ شيطاني.
ومع إنكشاف الحقيقة، انقسمت الأصوات في المجتمع. بعضهم لامنا، قائلاً بأن الصبر كان يجب أن يكون ملاذنا، ربما لتجنب المزيد من الدماء والخراب. وآخرون نظروا إلينا بعيون ملؤها التعجب، قائلين بأننا كنا نعيش في رفاهية ولا ينقصنا شيء، فلماذا نختار أن يُهدم البيت فوق رؤوسنا؟
لكن هناك من رأى الأمور بعين الحقيقة والعدالة، وقالوا إن الأيام التي ننعم فيها بالحرية ونفضح فيها المجرمين، هي أيام مقدسة وخصوصاً أن القتال فيها أرعب زوج أمنا ومن معه من مجرمين متلونين وخسروا جميعاً سمعتهم وتم تكذيب سردياتهم أن والدي مات منتحراً، وأن وفاة والدتي كانت طبيعية.
القيود التي انكسرت والمنزل المدمر يمكن إعادة بنائهما، ومن ضحى بحياته في هذه المعركة هو شهيد، وشهادته تعلو على حياة الخنوع والعيش تحت ظل الظلم، جيلاً بعد جيل.
الآن، وقد تسللت قصتنا إلى آذان الناس وأزالت الستار عن عيونهم، نرى بصيص نور يتسرب من بين الضلال. العدالة قد تأخذ وقتها، لكنها لا تغفل. أولئك الذين اعتقدوا أن ستائر الصمت ستبقى مُسدلة إلى الأبد، الآن يجدون أنفسهم تحت مجهر الحقيقة.
زوج أمنا، الذي ظنّ أنه يملك القوة ليكتب نهاية قصتنا، يجد الآن أنه مجرد شخصية في حكاية أكبر منه، حكاية يكتب فصولها المظلومون الذين قاوموا. وبينما نواجه الحطام والذكريات المؤلمة، نجد في قلوبنا القوة لنبدأ فصلاً جديداً. هذا ليس نهاية الرحلة، بل هو بداية مسيرة نحوالشفاء وإعادة البناء – ليس فقط للجدران التي تهدمت، بل للحياة التي كان من المفترض أن نعيشها.
أما بالنسبة لأولئك الذين توفوا في سبيل الحرية، فستذكرهم أرواحنا بكل ما هو أسمى وأنقى. تحولوا إلى رموز للتضحية، وأضاءت شجاعتهم الطريق للأجيال القادمة، مُعلمة أن الحرية لاتُهدى، بل تُنتزع انتزاعًا.
في ظل هذه الأحداث المتسارعة، بدأت القوانين تدور عجلاتها بثقلها وبطئها المعتاد، لكن بثبات. الدعاوى القضائية فُتحت، والتحقيقات من شمال الكرة الأرضية إلى جنوب افريقيا ألقت شباكها لتصطاد الحقيقة من بحر الأكاذيب. زوج أمنا، الذي كان يتباهى بأناقته ويخفي طبيعته الوحشية، بات الآن في قبضة العدالة، وعيون الجماهير ترقب ما ستؤول إليه محاكمته.
نحن، الناجون من عذاباته، نقف اليوم كشهود على جرائمه. نحمل جراحنا وآلامنا كدليل على ما عانيناه. ولكننا نحمل أيضًا أملاً جديدًا، أملاً في مستقبلٍ حيث لا يعترينا خوفٌ من الظلم ولا قلقٌ من القهر. نعم، البيت الذي كان يحتضننا قد تهدم، لكن الأساس الذي نبني عليه حياتناالجديدة هو أقوى من أي حجر.
وبينما نشهد إعادة بناء ما تحطم، ندرك أن البناء الحقيقي يحدث في داخلنا. نعمل على صياغة هويتنا من جديد، فلسنا عبيدًا للخوف، ولسنا رهائن للماضي. نحن أحرار في صنع قراراتنا، أحرار في تحقيق أحلامنا، وأحرار في العيش حب والسلام في بيوتنا التي نعيد بناءها من الأنقاض.
مع كل طوبة تُرصف، ومع كل شجرة تُغرس، نحن نعمل ليس فقط على إعادة بناء منزل، بل إعادة بناء حياة، إعادة بناء عائلة، وربما إعادة بناء مجتمع بأسره. الرسالة التي نريد أن تُسمع هي أنه حتى في أعمق ظلمات الظلم، يمكن للأمل أن ينبت، ويمكن للنور أن ينتصر على الظلام.
أولادنا، الذين تذوقوا طعم العنف والظلم، يتعلمون الآن دروساً جديدة عن المغفرة والتعافي. نعلمهم أنه، بالرغم من صعوبة المسامحة، إلا أنهاتحرر النفس من أغلال الحقد. نقوم بزرع بذور التسامح والتفاهم في قلوبهم، حتى لا يكونوا حملة للدمار بل سفراء للسلام.
ولا ننسى أن نحتفل بالذكريات الجميلة لمن فقدناهم، فهم ليسوا مجرد رموز للتضحية، بل هم أيضاً جزء من تاريخنا وقصص حياتنا. نحن نعيد كتابة تلك القصص، ليس بالحزن والندم، بل بالحب والامتنان للأوقات التي قضيناها معاً، وللدروس التي علمونا إياها.
أخيراً، نفهم الآن أن الحرية لا تأتي بلا تكلفة، وأن العدالة تحتاج إلى من يقفون في وجهها بشجاعة. نحن لا ننظر إلى الوراء بأسى، بل ننظر إلى الأمام بعزم. فكل خطوة نأخذها بعيداً عن الأطلال الماضية تُقربنا أكثر فأكثر إلى الأمل الذي نسعى إليه، وتُعزز من عزيمتنا للمضي قدماً في مواجهة ما قد يأتي من تحديات. نحن لا نتجاهل الألم الذي تحملناه، بل نستخدمه كجسر يعبر بنا نحو مستقبل أكثر إشراقاً وأماناً.
إذا نظرنا إلى الأفق البعيد، نجد تشابهاً مؤلماً بين محنتنا ومأساة قطاع غزة، حيث يعيش الناس تحت وطأة الاحتلال، يكافحون يومياً للحصول على أبسط حقوق الإنسان. زوج الأم في قصتنا، هو الكيان المحتل، يفترض من سلّطه علينا على كتابة نهاية قصص الأرواح الفلسطينية البريئة، لكن تلك الأرواح ترفض أن تكون مجرد هوامش في صفحات التاريخ. فهم، يحلمون بالحرية والسلام وحياة تسودها العدالة والمساواة.
قصة غزة، وكل القصص المشابهة حول العالم، هي تذكير بأن الإنسانية ما زالت تواجه تحديات جسام. تذكير بأن النضال من أجل الحرية والعدالة ليس خياراً بل ضرورة. وعلى الرغم من الألم الذي يُخلفه الدمار والفقدان، إلا أن هناك دائماً إمكانية للنهوض وإعادة البناء، ليس فقط للمنازل، بل للأمم والمجتمعات.
يجب أن نتذكر أن هناك أملًا متجذرًا في كل ركن من أركان العالم، وأن روح الصمود التي تنبض في قلوب سكان غزة تعكس قوة لا تُقهر، قوة تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة. هذه القوة هي إرادة الإنسان للعيش بحرية وسلام.
النهاية التي نسعى إليها ليست مجرد توقف للعنف، بل هي بداية لعالم جديد حيث يُعترف بحقوق الجميع وتُحترم. حيث يُبنى الأمن على أسس العدل والمساواة والتفاهم المتبادل. وحيث يُمكن للأطفال أن ينموا دون خوف، وللشباب أن يحلموا ويسعوا لتحقيق أحلامهم، وللعائلات أن تزدهر في مجتمعات مستقرة ومزدهرة.
وكما يعلم الجميع، يُعتبر التعليم والسفر جسرين حيويين لفهم العالم وتعزيز التواصل بين الثقافات المختلفة وإحلال السلام مما يعزز قيم الاحترام والتسامح ويعزز روح التعايش السلمي بين الناس. لذا، دعونا نعمل معًا على تعزيز العمل التعليمي والثقافي كوسيلة مؤثرة لبناء عالم أفضل وأكثر عدلاً وأمناً وانسجامًا.